حاضر روحي

ادناه عيّنة من قصص الفصل الثاني
ـ 2 ـ
حاضر روحي

* * *
حياتي.. حياة..

حياتي ليست جنة.. حياتي ليست جهنم..
حياتي.. حياة..
فيها جنان وفيها نيران..
فيها ألحان وفيها أشجان..
فيها أخيار وفيها أشرار
جنتي في محبتي، وجهنمي في نقمتي
سعادتي في تفائلي، وتعاستي في تشاؤمي
مرضي في انغلاقي، وصحتي في انفتاحي
الأخيار نسائم كرمي ونفحات تسامحي..
الأشرار حرائق طمعي ومخالب شهوتي
نعم حياتي مثل كل حياة،
أمواج كلمات ونغمات،
قد أحيلها إلى:
مرثية وداع،
أو أنشودة ميلاد.

*********************************************************************************************

حبيبتـي والكلـب
بغداد 1970


أنت بحر وأنا ملاّحك وعشقي مركبي..
أنت دنيا وأنا آدمك وضميري حضارتي
أنت وطن وأنا شعبك ووفائي دولتي
أنت دين وأنا نبيك وصمتي رسالتي
فتعالي ياحارسة بوابة قلبي
هاكِ مفتاح ايماني..

* * *

تسلقت جدار قصر (القادر)، ووثبت إلى الحديقة. اختبأت بين سيقان أشجار الليمون وأغصان الزهور الشوكية؛ من أجل أن أشاهد (حواء). كانت الساعة قد تخطت العاشرة ليلاً والظلام قد نشر ذراته السوداء في فضاء بغداد. رغم إنها ليلة اكتمال القمر إلاّ أن سحب الخريف قد دثرته وحجبت ضياءه. من بين كتل الظلام قدحت عيناي تتلصلصان كعيني ذئب متحفز للانقضاض على فريسة. ترقبان نوافذ القصر بحثاً عن نافذة مضاءة. كنت أبذل الجهد من أجل السيطرة على وجيب قلبي وارتجافات تركزت بين ساقيّ وأسناني. بدأت تجتاحني مشاعر بركانية تمتزج فيها حمم رعب من فضيحة ورغبة مستعرة لمشاهدة (حواء).
قبل تلك الليلة ببضعة أشهر، بعد أن بلغتُ عمر الرابعة عشرة، دأبت على ممارسة هذه العادة الليلية الخطيرة. وكم كنت أعاني من مشاعر الاثم؛ لأني بسبب حاجتي الجنونية لرؤية معبودتي، اضطررت إلى التعود على مراقبتها مساءً عبر النافذة. الحقيقة أن الأمرَ حدث صدفة، عندما شاهدتُ ذات مساء عبر النافذة تلك الشابة الغاوية المغناجة وهي تخلع ثيابها. منذ وعيت حبي لـ (حواء)، انتبهت أيضاً لانجذابي الشبقي لخادمتهم (خانزاد). كم أحسست بالخزي كلما أدركت الشهوات التي تستثار في جسدي على مرآها أو حتى خيالي. كنت في كل مرة أناجي طيف (حواء) وأعتذر لها؛ لأن خيال (خانزاد) قد لوث حبي وشغلته لذّة الجسد عن مشاعر الروح.
إن شغفي برؤية (حواء) يعود إلى زمن الطفولة. منذ أن بدأ عملي في حانوت أبي. قبل بلوغ عمر السابعة قالت لي أمي أني أصبحت رجلاً وجلبتني كي أساعد أبي.
كان الحانوت يجاور دائرة الأمن العامة في محلة السعدون وسط (بغداد)، التي تتميز بسكانها الأغنياء من تجار وموظفين كبار ودبلوماسيين. أما دائرة الأمن فإنها كانت تزدحم برجال شرطة مدنيين وعسكريين، بالإضافة إلى معتقلين بمختلف أصنافهم، كادحين ومثقفين ووزراء وقادة أحزاب وحكومات متساقطة. مع الأعوام وتنامي العنف والاستبداد راحت تتوسع هذه الدائرة بلا كلل كالسرطان في داخل المحلة، تزحف نحو البيوت المجاورة وتهدد بابتلاع قصر التاجر الموصلي المعروف (القادر).
* * *
رغم الحاجز الأمني المحيط بالقصر إلاّ أنه لم يكن سبباً كافياً لكبت رغبتي بالقفز ليلاً إلى الحديقة والتلصلص عبر النافذة بحثاً عن (حواء). كنت أدرك جيداً خطورة مغامراتي الليلية وهول الفضيحة والعار الذي قد تجلبه. في كل مرة كنت ألوم نفسي بحرقة وقسوة وأحلف أغلظ الأيمان أني لن أعود لتكرارها أبداً. لكن المساء عندما يشرع ويعّم السكون الموحش دروب المحلة وتتسرب من المآذن البعيدة نداءات (الله أكبر) حزينة جارحة كأنها كلمات وداع للدنيا، تتفاقم عتمة الوجود في صدري وأحس بعزلة كونية كأنها الموت. حينها تستحيل روحي إلى وقود أسود يشتعل برغبة نارية لرؤية (حوائي).
في تلك الليلة الخريفية بدا القصر شاحباً يثقل عليه سكون تتخلله همهمات تتناهى من بعيد مع نقيق ضفادع وهفيف ريح تداعب الأغصان وتذوب في أنفاسي المكتومة وهمهماتي الخائفة. كانت نوافذ الطابق الأرضي كلها منطفئة عدا واحدة، كنت أعرف أنها نافذة غرفة التلفزيون. سَرَتْ في بدني قشعريرة أشبه بلذة وأنا أفكر بأن هنالك أملاً كبيراً برؤية معبودتي وهي تشاهد فيلم السهرة كعادتها في معظم الأماسي. من دون تردد اتجهت نحو النافذة متخبطاً بين شجيرات الزهور الشوكية غير مبال بالخدوش العميقة التي أحدثتها في وجهي وذراعي. فجأة تجمدت في مكاني وتكورت بسرعة بين الشجيرات بعد أن اجتاح المكان ضجيج جامح وخطفت أنوار كالبرق. تبين أنها قادمة من إحدى سيارات الأمن التي توقفت محاذاة السياج. تناهى إلى سمعي من خلف السياج، خليط من ضجة أبواب تنغلق وقعقعة أسلحة وصفعات وأوامر وشتائم:
ـ شيوعي كلب حقير…
ثم أجابتها كلمات متأوهة:
ـ أرجوك يا أخي، مو كسرت ضلوعي.. إنگطع نفسي ياجماعة.. الله يخليكم، صدگوني آني بريء، والله بريء…
ـ اسمع الكلب يحلف بالله، الكافر ابن الكافر يحلف بالله..
راحت الأصوات تتلاشى بالتدريج، وعمّ السكون من جديد. حينها أحسست بقواي تنهار فارتميت فوق الزهور والأطيان متفجراً ببكاء حارق ونحيب مخنوق بينما كفاي تغوران في التربة وتنهشان لحم الأرض. شرعت الكلمات تخرج مني كهذيان:
ـ بريء والله بريء.. صدگوني بريء.
كان نحيبي مفعماً بعتاب وغضب. لم أكن أخاطب (حواء) بل الله وأبي ورجال الأمن. قبل أشهر اندلع في روحي حريق الشك، عندما أعادت لي (حواء) رسالتي التي أمضيت أياماً ولياليَ لأكتبها على ورقة زرقاء مزينة بفراشة ووردة ومضمخة بعطر اختلسته من أختي. لن أنسى أبداً تلك الساعة الرمضاء من أوائل الصيف الماضي عندما نادتني (حواء) وكان وجهها شاحباً بحمرة نارية كشمس بغداد وقد غطتها عواصف الصحراء الرملية. امتدت كفها من خلف قضبان الحديقة، تعيد لي رسالتي وهي تخاطبني بصوت طفولي بريء رغم الغضب والارتعاش:
ـ خذ هذه رسالتك، قرأتها أمي وراح تحكي لأبوك….

* * *
في تلك الليلة الليلاء كنت في قصر (حواء)، أنهض من أطياني وأحبو كذئب نحو النافذة التي ما زالت مضاءة. لا أشتهي شيئاً في الدنيا غير مشاهدة (حواء). يا إلهي، شهور الصيف كلها لم ألمحها حتى لمرة واحدة. اللعنة على السفر وعلى من اخترع السفر. لماذا هكذا يا أوربا، تتعاضدين مع أعدائي وتخطفين مني معبودتي؟ لتذهب إلى الجحيم باريسك ولندنك وجنيفك، وليعّم الخراب مدنك ومطاراتك وشواطئك التي تحرمني كل صيف من إيماني وآلهتي.
وقفت تحت النافذة المرتفعة عن الأرض بثلاثة أمتار. أتنصت إلى الأصوات القادمة من التلفزيون. كان فيلماً مصرياً (الخطايا) أحد أفلام عبد الحليم. صوت صفعة وتوبيخ الأب (عماد حمدي) لابنه على مروقه. بعد قليل انطلق (عبد الحليم) بصوت دافىء حزين:
“لست أدري أين ضحكي وبكائي وأنا طفل صغير… لست أدري أين جهلي ومراحي وأنا غض غرير… لست أدري أين أحلامي وكانت كيفما سرت تسير… كلها ضاعت ولكن كيف ضاعت لست أدري”.
أصابني الخدر وسرت نشوة في بدني وعمَّ السلام روحي. اتكأت على جذع السنديانة، وعلى أضواء المصابيح المتسللة من دائرة الأمن عبر الأغصان رحت أنظر إلى نفسي وقد غطاني الطين وتيبس الدم على خدوشي. فكرت بإخوتي وأصحابي ماذا سيقولون عنّي لو عرفوا بمغامراتي هذه، فكرت بالفضيحة والعار، وكيف انحدر بي الحب إلى هذا الحال.
رحت ألعن الليل ووحشة الليل التي جعلتني هكذا بوحدتي وعزلتي ألجأ لمثل هذه المغامرات المقرفة لكي أشاهد حبيبتي، بسببها اكتشفت هذه العادة الخطيرة. منذ أن تعودت النوم في حانوت أبي معظم أيام الأسبوع، والعودة من مدرستي المسائية لأن دارنا كانت بعيدة شمال بغداد ـ الكاظمية. كنت أنام وحيداً على قنفة عتيقة تحت سقف حانوتنا المتداعي، يحيطني ظلام وحفيف حشرات لم تأو بعد إلى جحورها المنتشرة في أنحاء الجدران والسقف. كنت أفكربـ (حواء).. أريد أن أراها.. أكلّمها وأبكي على صدرها.. أتكَّور بين أحضانها.

* * *
عشقي لـ (حواء) علمني عشق أوربا والاغتراب. عندما كانت تعود من غيابها في الصيف، كانت تتحدث عن مدن بعيدة، بعيدة جداً وكأنها في عوالم أخرى: باريس ولندن وجنيف وأمستردام. في كل مرة كنت أشاهد هذه المدن في عيونها الخضراء حتى استحالت أوربا مع الزمن إلى جنان خضراء تقيم في عيون (حواء).. كل شي في أوربا كان أخضر: مدنها ومزارعها ومصانعها، حتى بحارها وسماءها كانت خضراء.. حتى شموسها كانت خضراء، لا تحرق مثل شمس العراق الرمضاء.
هذا الصباح علمت بعودة العائلة من أوربا. بذلت جهدي طيلة اليوم متقرباً من الخادمات والسائق لأسترق الأخبار عن (حواء): كيف أمضت أيامها ومن رافقت في أمسياتها؟ سمعت أنهم جلبوا حاجيات وهدايا لا تقدر بثمن. الطباخة العجوز (جوليت) همست في أذني وهي تقسم بالصليب أنها شاهدت حيواناً عجيباً جلبته (حواء) معها من أوربا. لم أفقه لماذا شعرتُ بالقلق من هذا الخبر، وتوجست النحس منه؟ رغم أني ألححت بالسؤال على العجوز إلاّ أني فشلت في معرفة هوية ذلك الحيوان العجيب.
تشبثت بتعرجات الحائط ورحت أتسلقه حتى أمسكت بماكينة التبريد المرتفعة أكثر من ثلاثة أمتار. ألصقت وجهي بمشبك النافذة، وحدقت عبر فتحات الستارة: كانت هي نفسها.. (حواء) بعيونها الخضر تشاهد التلفزيون. (حواء) وشعرها الذهبي ينير المكان ويضفي عليه وهجاً شمسياً.. مستلقية على الأريكة وثوبها مرفوع متكور بين فخذيها الورديين.. وحيدة تشاهد فلم (الخطايا) وتدمدم بأغنية (عبد الحليم حافظ)، محركة أصابعها مع النغمات. تمنيتُ لو أمضي عمري هكذا أنظر إليها.. تمنيتُ لو تحدث معجزة وأتحول أنا إلى تلفزيون تجلس أمامي لتشاهدني وأشاهدها.. تمنيت لو أني كنت واحداً من إخوتها، خادمها، حارسها، ملاكها، إلهها الذي ليس له من المخلوقات إلاّ هي.
تمنيت وتمنيت.. لكن فجأة قطعتُ سلسلة تمنياتي ضجة قادمة من الأسفل. اقشعرَّ بدني وتيبست دمائي وأنا أسمع صوتاً قادماً أشبه بزئير. التفتُّ بسرعة نحو الأسفل فرأيت تحتي على الأرض كائناً غامضاً. للحظات ظننته وهماً أو بشراً متنكراً. حدّقت وحدّقت وأنا أتمنى في أعماقي أن أكتشف تفاهة الأمر. لكني كنت أراه بوضوح أكثر.. أسمع زمجرته، وأتيقن من وجوده: كائناً وحشياً متحفزاً للوثوب وعيناه جمرتان تقدحان بحقد وشهوة افتراس.
في حياتي كلها لم أشاهد مثل هذا الكلب. فأنا عشت سنوات طفولتي وصباي أصارع كلاباً سائبة في أزقة بغداد. كم من المرات في الليالي وعند ساعات الفجر وحيداً في دروب محلة السعدون، خضت حروباً حقيقية من الكر والفر ضد مجاميع كلاب سائبة تسّد عليَّ الطريق. لم يكن سلاحي غير الحجارة والصراخ. لشدَّ ما مقتّ أيام الخصب في الربيع؛ إذ تتفاقم وحشية الكلاب. تستحيل دروب المحلة وخرائبها إلى سوح مضاجعات جماعية وفجور كلبي. الكلبة عندما تنجب تصبح أماً متوحشة؛ لأنها تعتبر كل من يمر في الدرب عدواً قادماً لاختطاف جرائها. من تلك التجارب المريرة تعلمت درساً واحداً لا أشك أبداً بصحته: أن لا أنهزم أمام الكلب.. مهما كان الكلب جباناً فإنه سيستحيل إلى ذئب يلاحقك حتى ينهش لحمك. مهما كان عدد الكلاب وشراستها، فإن الخلاص الوحيد أن لا تدير لها ظهرك.. واجهها بصراخ وتهديد.. وارم عليها حجارة.. إن لم يكن في الأرض حجارة لترمِ عليها تراباً أو حتى هواءً. تمَّسك بالكرِّ والفرِّ، وعندما تضطر للتراجع ابق بمواجهتها وعيناك في عيونها.. المهم إياك والهزيمة.
لكن يا إلهي ما هذا الحيوان بكلب مثل بقية الكلاب، أهو هذا الحيوان العجيب الذي جلبته (حواء)؟ في حياتي كلها لم أشاهد مثله: ضخم كأنه ذئب يحوم فاتحاً شدقيه مزمجراً ورافعاً قامته مستعداً للوثوب. اللعنة على أوربا، حتى كلابها أعظم من كلابنا.. أشبه بذئاب ليس من أمل بمواجهتها.. سياسة الكر والفر لا تنفع معها.
مكثت عيناي تنطّان بين النافذة والأرض: هنا (حواء) والفضيحة.. هناك الكلب والموت! ياله من مصير ما له مثيل. إن هبطت فليس بانتظاري سوى تلك الأشداق الذئبية ومخالب الموت. إن بقيت، فإن (حواء) وأهل القصر ورجال الأمن قادمون لا محال على نباح الكلب وعوائه. يا للفضيحة.. ماذا ستقول عني إيمان وأهل إيمان.. ماذا سيقول عني أهلي وأصحابي وسكنة السعدون.. ثم رجال الأمن، يا إلهي رجال الأمن ماذا سيفعلون بي، هل سيعذبونني ويرمونني مع المعتقلين؟
زمجرة الكلب تشتد وتتصاعد، يقيناً أن النباح سيوقظ الجميع، في كل الأحوال الموت بانتظاري، إما بين أشداق الكلب أو بين أشداق المجتمع. الفضيحة أمام (حواء) والناس تعني لي أكثر من الموت، ولو انتحرت فإن عار الفضيحة سيطاردني حتى في الآخرة. أحس بكياني مدينة تحاصرها جيوش مدججة بموت وعار. أفكار مرتعبة تمتزج بمشاعر هائجة صانعة دوامات نارية تعصف بدماء تجري فوّارة كحمم في العروق، عيناي لا تشاهدان من الوجود غير عينيّ الكلب. أنفاسي تضج بهمهمات وحمحمات تفور في أعماق صدري. كل شهقة وزفرة تنتظم مع ترددات زمجرة الكلب وتتصاعد منمسخة إلى أصوات وحشية.. أشهق وأزفر.. أشهق وأزفر.. أششـ.. أزز……
أزأر وأزمجر ويبزغ من بدني شعر شوكي..
فمي يتضخم وتنبثق أنياب في فكي ولعاب ينزف كثيفاً وأظافري تستحيل مخالباً و..و..
وإذا بي أنفجر فجأة بصرخة معتوهة تشق الظلام وعصف صداها في الفضاء مخترقاً جدران القصور والسجون؛ لينفذ إلى مسامع الناس والحراس والسجناء. في نفس اللحظة وجدتُ نفسي مرتمياً فوق الكلب ممتطياً إياه وخامطاً رأسه بين مخالبي وغارزاً أنيابي في لحمه. حشرجات وجع مختنق كانت تصعد من صدري بعويل شاك معذب وأنا أتهاوى على الأرض صريعاً.
حينها لم أكن مرتعباً أو غاضباً، بل كنت أحس بطوفانات من اللذة تسري بكياني. حشرجات الكلب بدت تشبه تأوهات شهوة، وطعم السائل الحار في فمي كان حلواً كلعاب قبلات. في لحظات النزع الأخير جحظت عينا الكلب وصار لونهما أخضر أخضر أخضر.. يشع بشبق وحنان.
مع تصاعد الشعور باللذة كانت صرخاتي تستحيل إلى عواء ذئب يتفجر من أشداق ملوثة بشعر ودم. لذتي تتصاعد إلى الذروة، بينما الكلب يستحيل كله إلى أخضر.. كل الوجود يصير أخضرَ: الجدران والنوافذ وذرات الظلام والأنوار.. أما عوائي فإنه ظل يتصاعد ويعلو في فضاء محلة السعدون ويشق جدار البيوت والمكاتب والسجون ويصبغها كلها بلون أخضر مثل عيون حواء.

******************************************************************

زعيـم ثـورتـي
دمشق 1979

أًفزّ من نومي على أصوات انفجارات هزت كياني وتزعزع الوجود من حولي. أفتح عينيّ مرتعباً وأنا أتلَّمس من دون شعور رأسي وباقي بدني؛ لأتأكد من سلامتي. الظلمة التي تحيطني تتلون بين حين وآخر بتوهجات بروق وضجيج حروب. ما زالت عالقة في ذهني صور كابوس خنّاق رأيت فيه نفسي وحيداً في خندق بين أشلاء الرفاق وامرأة تشبه أمي ملفعة بسواد تريد الانقضاض عليَّ وأنا أحاول دون جدوى الركض والصراخ، لكن رعباً أسودَ يجمد حركتي ويكتم صوتي.
وسط الظلام تمتد يدي باحثة عن بندقيتي، لكني اتحسس شيئاً لم أتوقعه.. بلاطات أرض صقيلة باردة. كأني في غرفة وليس في خندق. أتجمد في نومتي محاولاً تفسير الأمر. وسط عتمة وضجيج موحش يثب أمامي سؤال أشبه بثعبان مستنفر:
ـ وين آني.. بأي خندق وأية حرب؟.
أشبه بثمل مخبول أسترجع في ذهني خنادق حروب لا أدري أين عشتها؟ منذ أن وعيت الحياة وأنا بانتظار (آخري)، حتى تاهت عليَّ الأعوام وتراكمت الأحداث ولم أعد أتذكر من حياتي غير حروبي التي لا تنتهي مع ذاتي الممزقة بين ذاتي والآخر المنتظر. حبيبتي التي عشقتها لسنوات تناستني وتزوجت.. حزبي الذي نذرت عمري من أجله قد مات، ورفاقي وأصحابي قد تشتتوا في أصقاع الأرض ومعهم تشتت آمال الثورة والمجتمع الفاضل.. أوربا التي كنت أحلم بغزو مدنها وقلوب نسائها قد باتت من المستحيلات.. وطني تائه وشعبه حائر، ولم يتبق لي غير اسمي (آدم) وحفنة من الآمال البعيدة بالنجاة والحرية لن أتخلى عنها؛ لأني بها أعيش وأتمسك بآخر توهجات الحياة.
ها أنا (آدم) الطريد، حمّال النسيان والانكسارات، وحيداً أقبع وسط البرد والظلام وضجيج الانفجارات، أفتش في أعماقي عن ماضيِّ وحاضري، بينما كفَّي تجوسان بلاطات الارض والبدن؛ بحثاً عما يعيد إليَّ ذاكرتي ويجيبني على نداءاتي المتصاعدة:
ـ يا رفاق يا أصحاب، أين أنتم؟ الوحشة تخنقني.
من بعيد بدأ يتناهى إليَّ صوت رجل جريح يستغيث بألم وغضب. من بين صخب مطر ورعد أمَّيز ذلك الصوت الرجالي يصرخ من مكان بعيد. انه صوت مألوف مفعم بيقين، نبراته تعلو وتنخفض بموجات تنبض بفاجعة. مع الصوت المألوف ذكريات تنبجس. إنه صوت (الأستاذ).. نعم إنه صوت (الأستاذ) لا غيره. حينها تتضح أمامي الحقيقة كاملة. أحس ببعض الراحة وأنا أتذكر أني لست في خندق ولا حرب، بل أنا حتى خارج الوطن بأكمله. منذ أسابيع وأنا أعيش في (دمشق) التي تمكنت بعد جهود عجيبة أن أهرب إليها أملاً في بلوغ أوربا. أعيش في بيت (الأستاذ) في مخيم فلسطين عند أطراف العاصمة بانتظار الحصول على جواز مزور وتأشيرة سفر إلى أوربا.
أفكر بالأستاذ، يقيناً إنه يتحدث الآن مع رفاقه أعضاء المنظمة الثورية العراقية التي يقول أنه أنشأها قبل أعوام. منذ أن سكنت في بيت (الأستاذ) وهو لم يكف عن عرضه لي بالانتماء إلى منظمته التي يقول إن خلاياها تنتشر في أنحاء الوطن، وتعد العدة من أجل تفجير ثورة شاملة تمحق عن البلاد ظلامها وتعيد النور إلى ربوعها. هكذا يردد الأستاذ دائماً، حتى إنني أحسست بالعار من مشروع الرحيل إلى أوربا، ووافقت على مشروع (الأستاذ) بأن أتدرب على السلاح في إحدى معسكرات المقاومة الفلسطينية؛ لكي أعود فيما بعد إلى بغداد لأشارك الرفاق ثورتهم القريبة.
ظلام الغرفة يتبدد بين حين وآخر بوهج بروق وصواعق يخترق زجاج النافذة العارية من ستارتها. تستفحل آلام البرد، فأقرر أن أتحرك لأجد غطاءً يمنحني الدفء. ما إن أتقدم بضعة خطوات بحثاً عن زر كهرباء حتى اصطدم بطاولة صغيرة تسقط مع قناني مشروبات تتكسر وتحدث ضجيجاً مقرفاً حاداً. أتجمد في وقفتي حائراً محرجاً مفكراً بـ (الأستاذ) ورفاقه الذين سيهرعون لأستكشاف فعلتي.
لا أفقه كم من الزمن يمرٌّ عليَّ وأنا متجمد في ظلمة بانتظار رفاق لا يأتوا. يبدو أن الجميع مشغولون بالإصغاء إلى خطاب الأستاذ. على قَدح سماء وبخطوات حافية حذرة أتقدم محاولاً بصعوبة تجنب نثار زجاج. ما أن تلمس أصابعي الزر حتى أضغطه، مرة وثانية وثالثة، لكن دون جدوى، الكهرباء كعادتها منقطعة وسط ريح هوجاء ومطر لعين.
أفكر أن أستعين بالأستاذ، أطلب منه العون للعثور على غطاء وشمعة. إنه صاحب البيت، أليس كذلك؟ أشعر ببعض الارتياح لهذه الفكرة. إنها ستكون فرصة مناسبة للالتقاء بالأعضاء القياديين للمنظمة. حتى الآن لم أشاهد أياً منهم رغم وجودي في الدار منذ أسابيع. خلال العديد من الليالي بقيت أستمع من غرفتي المنعزلة إلى (الأستاذ) يلقي خطبه الثورية على الرفاق، ويملي عليهم وصاياه وتعاليمه للتحضير للكفاح والثورة. وكان (الأستاذ) يستيقظ ظهراً محمر العينان شاحب الوجه يرتدي ثيابه مسرعاً وهو يتمتم بأنه على موعد هام مع رجال المعارضة العراقية والقيادات الحزبية السورية والفلسطينية واللبنانية من أجل التنسيق والتحضير للثورة القادمة.
أقترب ببطء وتعثر من باب غرفة الاجتماع. أتلمس طريقي على وهج بروق وصواعق تحيل ظلال جسمي على الجدار إلى صورة وحش جريح يزحف على هدى كلمات ترتج بصدى جبلي ممتزج برعود وعصف ريح. رغم برد وتعثر ونعاس أشعر في أعماقي ببعض البهجة؛ لأنني أخيراً سألتقي الرفاق القياديين. يقيناً إني سأتعرف على بعضهم من رفاقي القدماء، ألم يكن (الأستاذ) مسؤولي الحزبي في بغداد، قبل أن يقرر الانشقاق في الخارج ويؤسس منظمته الثورية الجديدة. منذ صغري تعودت أن ألقبه بـ (الأستاذ)؛ لأنه حقاً كان أستاذي في المدرسة. حتى بعد أن أصبح مسؤولي في الحزب كنت كثيراً ما أسهو وأناديه بالأستاذ بدل رفيق. كان (الأستاذ) مناضلاً حقيقياً ومثقفاً تعَّود منذ صباه سجون وتشرد، وهو يمضي وقته بالكتابة وتعليم الناس حب التمرد والتعلق بحلم العدالة والمساواة. بالإضافة إلى عشقه للشعر وقدرته الفائقة على إلقاء القصائد التي كان يحفظ الكثير منها عن ظهر قلب.
ألاحظ أن الباب لم يكن مغلقاً تماماً، بل أرتعش مع ريح تهبّ من الغرفة؛ فثمة شق يتسلل منه ضوء أحمر شاحب ممتزجاً بضجيج رعد وصوت (الأستاذ). ما أن أضع أصبعي كي أطرقه يندفع الباب وينفتح تلقائياً ويتكشف أمام ناظري هكذا كل ما كان في الغرفة!
أتجمد في وقفتي وأظل مبهوتاً حائراً غير قادر على تصديق ما أرى!
أصمت مبهوراً مرتجفاً من برد وخيبة وأنا أحدق بذلك المشهد الكابوسي العجيب:
الغرفة خالية إلاّ من (الأستاذ) وحيداً عارياً بين عصف ريح وضوء شاحب لفانوس عتيق، جالساً على ركبتيه في أرض غرفة عارية، مطبقاً كفيه أمامه بخشوع، رافعاً رأسه إلى السماء عبر نافذة مفتوحة على مصراعيها، بينما رذاذ مطر ينساب على جسده وريح تتلاعب بخصلات شعره القليلة المبللة. يبدو أشبه بتمثال مهشم لكاهن أسطوري في معبد مهجور، وهو يخاطب السماء بصوت صارخ مفجوع:
((آه ربي، صوتهم يصرخ في قبري تعال
كيف لا أنفض عن صدري الجلاميد الثقال
كيف لا أصرع أوجاعي وموتي
كيف لا أضرع في ذل وصمت
ردني ربي أعدني للحياة
وليكن ما كان، ما عانيت من محنة الصلب وأعياد الطغاة..))(***)

أظلّ مبهوتاً لا أدري ما أفعل و(الأستاذ) مستمرٌ بإلقاء أشعاره بصوت صارخ مفعم بأسى. يا لها من خيبة ما بعدها خيبة. ايه يا أستاذي العزيز، أين هم الرفاق وأين هي أحلامك ووعودك عن ثورتنا العصماء؟ أهكذا غدر بك الزمان وألقى بك دون رحمة في دهاليز الوهم والنسيان؟ آخر ما تبقى لي من أمل أنت يا أستاذ، وها أنت تستحيل إلى واهم مجنون. رحماك يارب، لقد غدر بنا الجميع، الآباء والسادة والصحاب، وتكالبت علينا الخيبات… الأمل.. يارب.. الأمل..
بعد تردد اتجه إلى النافذة لأغلقها وأحمي (الأستاذ) من الريح والمطر. ما أن اقترب منها وأمسك مصراعيها حتى تنطلق صرخة احتجاج مخنوقة من حنجرة (الأستاذ) وتمتد قبضته مرتجفة وتشد على ذراعي وهو يخاطبني بلغة بليغة أقرب إلى شعر ودعاء:
ــ ابتعد أيها الغريب.. أراك أتيت لتفسد عليَّ ساعات توحدي مع قوى الثورة والعنفوان.. ابتعد أيها الغريب.. ارحل عني يا رسول البؤس وذكريات الظلام..
أردد مرتبكاً راجياً:
ــ يا أستاذ.. اشبيك؟ أنا رفيقك وتلميذك آدم.. أرجوك خليني أغلقها.. البرد راح يمرضك يا أستاذ.. أرجوك..
لكن قبضة الأستاذ يزداد عنفها، بينما تمتد فجأة يده الأخرى بمسدس وضع فوهته على قلبي ويخاطبني بصوت حازم:
ــ دع النافذة مفتوحة؛ لأنك عبرها ستعود من حيث أتيت.. عد إلى آلهة الهزيمة والنسيان.. رصاصة واحدة تكفي لتفجير قلبك المعبأ بأنفاس الخيبة.. ارحل.. عد أيها البائس الغريب، وإلاّ أطلقت..
تحت تهديد المسدس وصرخات (الأستاذ) وإصرار عينيه المتوهجتين ببريق الانتقام، اضطرّ للخضوع والهبوط من النافذة. أسقط من علو أربعة أمتار على أرض مخيم فلسطين الطينية. لا أدري كم من الزمن يمّر عليَّ وأنا جالس بين وحل أأن من آلام قدمي الملتوية وجروح حارقة ارتسمت كصليب على وجهي. المطر لا يكف عن التفاقم وكأن السماء أرادت أن تفرغ في تلك الليلة الليلاء كل مياه الكون على أرض دمشق، وريح ما برح عصفها يشتد ممتزجة بانفجارات رعود وقدح بروق حتى بدت الغيوم أشبه بوحوش سماوية تود ابتلاع البيوت.
أمسح السوائل عن وجهي ولا أنتبه الى انها مزيج من مطر ودم ودموع، لكني متيقن من شيء واحد: إني لا ولن أبكي؛ لأني أحس بأن كل طاقة السماء بأنوارها وانفجاراتها تتسرب إلى كياني وتشيع في شراييني قوة مخبولة هوجاء مفعمة بغضب وثورة، فأنهض من سقطتي مكافحاً بإصرار لم أعرفه من قبل آلام جسدي التي تحاول أن تجبرني على أن أحبو وأعرج.
مثل كائن خرافي ينبثق من أوحال الخيبة ودم الكوارث، أنهض ملطخاً بأطيان محنتي ونزيف جراحي، مستجمعاً في روحي كل انكسارات عمري وهزائم حروبي التي تتكور وتتكور حتى تتفجر بصرخة هوجاء تحتشد فيها أسماء أرباب وآباء وقادة وأساتذة منحتهم ثقتي منذ ميلادي وحتى هذه اللحظة:
لا… لا…لا يارب لا….
فتجلجل الـ (لا…) عبر بيوت مخيم فلسطين وحارات دمشق وتتصاعد أصداؤها إلى عباب السماء بالغة أقاصي الكون.

——

*** مقطع من قصيدة (حب وجلجلة) للشاعر اللبناني (خليل حاوي)

*****************************************************************************************

صديـقي الذي غـدرت بـه!
بيـروت 1980

نعم يا صديقي، إني أتذكرك جيداً، فما زالت دموعك تذرف من عيني ونحيبك يعلو في صدري. أراك في ذلك المشهد الذي غيَّر حياتي كلها. تلك الأمسية الربيعية، كنّا أربعة عراقيين جالسين على الأرض في غرفة معتمة صغيرة. أنا وأنت ورفيقان كنّا نتداول الأحاديث التي توقفت قليلاً بعد سماعنا أصوات انفجارات بعيدة. لقد تعوَّدنا ضجيج الحرب في هذه المدينة (بيروت)، منذ أن التجأنا إليها هرباً من الوطن. كنّا جزءاً من آلاف العراقيين الذين هربوا من شبح موت إلى بلاد تعيش موت وسط حرب أهلية لا ترحم ولا تميز بين البشر.
عبر نافذة مطلة على (حارة الفاكهاني) كانت تأتينا أصوات الناس ممزوجة بقعقعة السلاح. بينما أنت مسترسل بحديث طريف عن نكات جديدة قادمة من الوطن. طيبتك الطفولية لم تجعلك تنتبه إلينا، نحن رفاقك الثلاثة، كيف كنّا نفتعل ضحكات صفراء ونتبادل نظرات سرية متآمرة.
قام أحدنا بغلق الستارة وأشعل ثلاثة شموع أضفَت على المكان جواً من الرهبة وعلى وجوهنا ملامحَ نارية، كموتى في جهنم.
يا صديقي، حينها لم تنتبه أيضاً بأننا جلسنا بوضعية بحيث تكون أنت أمامنا مستنداً على الحائط ونحن بمواجهتك مستندين على الحائط المقابل. لم تستوعب معنى نظراتنا التي راحت فجأة تصوب نحوك مفعمة بشك وإدانة. أراك الآن بكل وضوح كيف بدأت بالتدريج تموت ابتسامتك المتألقة على محياك لترتسم محلها ملامح دهشة واستغراب وأنت ترى أحد الرفاق يحدق بك بصرامة ويكلمك بصوت حازم يشوبه ارتباك:
– اسمع رفيق.. هناك أمر خطير نريد أن نكاشفك بيه.. الحقيقة إحنا ترددنا كثير لكن المسألة ما عاد من الممكن السكوت عنها. أنت باختصار يا رفيق متهم بالخيانة. نعم أنت متهم بالخيانة وما نطلب منك غير الاعتراف وتعويض ما اقترفت من خيانة وتجسس بحق القضية والمنظمة. نعاهدك بالشرف إذا اعترفت وتعاونت معنا راح نعفو عنك، وإلا فحكم الإعدام ينفذ بحقك هذه الليلة بالذات.. و.. و..
وانقطع صوت الرفيق بانقطاع الكهرباء وساد الغرفة ظلام وصمت ممتزج بزخات مضادات الطائرات المنتشرة فوق عمارات الفاكهاني، وضجيج صرخات الناس:
ـ ((بصو الطائرات الإسرائيلية.. شوفو الطائرات..)). ومن خلف باب الشقة تسرب إلينا بكاء طفلة تستغيث بأمها.
لم يصدر أي صوت منك يا صديقي.
من بين ضياء الشموع رأيتك باهتاً وابتسامتك تومض وتنطفئ مع تموجات اللهب. أدركت جيداً مشاعرك يا صاحبي. كنت تجاهد كي لا تصدق ما قاله الرفيق. أعرف أنك قلت لنفسك:
ـ ((هاهي لعبة أخرى يختبرني عبرها الرفاق)). حاولت أن تقنع نفسك بأنها مثل اللعبة السابقة التي عشناها سوية قبل أسابيع.
* * *
أتتذكر ذلك المعسكر الفلسطيني شمال دمشق والمحاذي لقرية معلولا التاريخية. كيف أمضينا الأسابيع نتدرب مع الفلسطينيين على حرب العصابات، كي نعد أنفسنا للثورة التي سوف نطلقها في الوطن.
ذات ليلة حالكة مثلجة كنا غارقين في النوم في المهجع متدثرين بالبطانيات العسكرية وأحلام الثورة والاستشهاد، وإذا بنا نفزّ فزعين على أصوات انفجارات وصرخات استغاثة:
ـ ((ياجماعة.. يارفاق.. هجوم إسرائيلي.. آخ.. آخ.. يابا الحگني الحگني..))
كانت استغاثات وجع وموت تذوب في زخات رصاص وصرخات تهديد باللغتين العربية والعبرية:
ـ ((القوا سلاحكم واستسلموا يا جبناء.. يا إرهابيون.. اقتله.. قلت لك اقتله هيك اللي ما يستسلم..)). ولعلعت زخات الرصاص ومعها صرخات الموت!
وسط ظلام ورعب وارتباك قفزنا من أفرشتنا وارتمينا على بنادقنا. لكن المفاجأة أننا عندما بدأنا الإطلاق على ظلال الجنود الذين دخلوا مهجعنا اكتشفنا أن بنادقنا كانت فارغة. قبل أن يتاح لنا أي وقت للتفكير كانت الأشباح الإسرائيلية فوق رؤوسنا وبنادقهم انغرزت في صدورنا مصحوبة بشتائم عربية وعبرية وأوامر حازمة بالاستسلام أو الموت!
لا أدري إن كان من سوء حظك يا صاحبي أو هو قدرك، أن الجميع لاذ بالصمت بانتظار المجهول، لكنك أنت الوحيد الذي انفجر ببكاء مر وعويل دام باغتنا جميعاً:
ـ ((يا يمىّ تعاليلي.. يا يمىّ خلصيني.. يا جماعة آني بريء.. آني ما أريد أموت.. والله العظيم ما كنت راغب لا بالحرب ولا بالسلاح.. آني إنسان أحب أمي واختي والكتب.. آني بريء يا إخواني آني بريء..)).
وسط صمت الكارثة ونحيبك ورجائك للجنود الإسرائيليين، انطلق فجأة صوت رفيق آخر، صارخاً بغضب:
ـ ((اسكت يا جبان.. اسكت خزّيتنا يا مَرَه.. يا تافه.. عاشت الثورة ولتسقط الإمبريالية والصهيونية.. الحرية أو الموت..)).
وقبل أن يحدث هذا الأمر أي رد فعل من قبلنا، إذا بالضحك ينطلق من الأشباح الإسرائيلية وهي تنطق بأصوات رفاقنا الفلسطينيين:
ـ ((خلص يا رفاق التمرين انتهى.. كانت تجربة من شان إعدادكم على أسوء الحالات.. خلص يا رفاق نحنا رفاقكم ومش صهاينة.. يلّله اعلق الضوء يا رفيق.. التجربة انتهت يا جماعة..)).
هكذا إذن، فهمنا أن الهجوم كان وهمياً تنتهي به عادة الدورات التدريبية الفلسطينية.

* * *
منذ تلك الليلة الليلاء بدأت أوضاعك يا أخي تتدهور. موقفك الانهزامي ونحيبك الطفولي جعل كل الأنظار تتجه نحوك. لم تشفع لك محاولتي أنا وبعض الرفاق بأن نبرر موقفك هذا بأنه حالة إنسانية وصدمة نفسية يمكن أن يمر بها أي من الرفاق، ولا يمكن اتخاذها دليلاً للحكم عليك؛ لأني صاحبك منذ الطفولة وحدثتهم عن حياتك وطفولتك، وعن تلك الليلة التي قتُل فيها أبوك الشيوعي أمامك على يد رجال الأمن، وكيف أنك أمضيت عمرك مع أمك وأختك وكابوس الأب القتيل وصرخات احتضاره الممتزجة بلعلعة رصاص تلاحقكم في ليالي الوحشة.
أخبرت الرفاق عن ثقتي الكاملة بك وإيماني بصدقك واستعدادك الحقيقي للتضحية. لكن كلماتي كانت أضعف من أن تواجه تلك الرغبة السرية العارمة التي كانت تدفع الجميع للتمسك بحكمهم القاسي:
ـ ((جبان أعلن استسلامه وباع القضية عند أول امتحان))!
بصورة لا شعورية، اتفق معظم الرفاق على أن تكون أنت (كبش الفداء) المطلوب. بما أن الجلاد لن يحقق غايته دون الحد الأدنى من تواطئ الضحية، فإنك يا صاحبي رحت، مدفوعاً بمشاعر العار والهزيمة، تنزلق أكثر فأكثر نحو الهاوية، وتساهم من دون قصد في إثارة روح الشك والافتراس لدى الرفاق.
أعرف جيداً أنك في تلك الأيام كنت تعاني من مشاعر تأنيب الضمير بسبب هجرك لأمك وأختك. اضطررت لهجر العراق مثل الكثيرين؛ لأنك رفضت التوقيع على التخلي عن فكرك وضميرك. لكنك بنفس الوقت كنت تعيش الخيبة من حزبك والتردد في العودة أو البقاء. في أعماقك الدفينة كنت تود معاقبة نفسك على هجرك لأمك وأختك، فتجلَّت رغبتك بجلد الذات من خلال تآمرك اللاّشعوري في إثارة شكوك الرفاق ضدك.
تراك منذ تلك الليلة المشؤومة أخذت تميل إلى العزلة والابتعاد عن الجميع. بعد أن عدنا إلى مقر التنظيم في مخيم فلسطين في دمشق بدأت على غير عادتك تخرج وحدك صباحاً ولا تعود إلاّ في الليل. ادعىّ البعض بأنهم شاهدوك مرات عديدة تأكل في مطاعم فاخرة وبصحبة أناس غرباء.
ثم تفاقمت الشكوك عندما ذكروا بأنهم شاهدوك بصحبة أحد سواق الباصات العراقية العاملة بين دمشق وبغداد. أنت تعرف جيداً تلك الفكرة الشائعة عن هؤلاء السواق بأن لهم علاقات مع المخابرات العراقية. عندها اضطررت أن أسألك مباشرة عن هذه المسألة، أخبرتني بأن هذا الرجل قريبك ونقل إليك رسالة من أمك وأختك، وهو الذي كان يدعوك إلى المطعم.
الحقيقة أني صدقتك، لكن الرفاق لم يصدقوا وأصرّوا على التمادي بشكوكهم واتهاماتهم. الآن أدرك أنّ الكثير من الرفاق المصرّين على إدانتك كانوا مدفوعين أساساً بالغيرة من علاقتي الحميمة بك.
مع الأيام راحت الشكوك تتفاقم وأخبار علاقاتك المشبوهة تتكاثر ومطالب الرفاق بمحاكمتك صارت من القوة بحيث إني اضطررت بأن أوافق على قرار الأغلبية. قمت أنا شخصياً بإقناعك بالسفر معنا إلى بيروت، لكي تسهل محاكمتك وتنفيذ حكم الإعدام بك في حالة ثبوت إدانتك.
* * *
لكن يا عزيزي في ذلك المساء الكئيب وأنت جالس أمامنا في تلك الغرفة المعتمة في مدينة (بيروت) الجريحة، ومن بين ضوء الشموع المتماوج بدوت لي منهكاً مثل نخلة عطشة. رفعت عينيك نحوي وسألتني بصوت خافت مبحوح:
ـ وأنت يا رفيقي يا (آدم) ما رأيك؟
في الحقيقة فقد باغتَّني بسؤالك، ولم أدرِ كيف أجيبك. خرجت مني الكلمات كأنها آتية من بعيد:
– اسمع يا رفيق أنت صاحبي وأعرفك من الطفولة، وآني اللي أقنعتك بالانتماء للتنظيم.. آني واثق منك، لكن يا رفيق الأغلبية صوَّتوا على هذا القرار.. صدقني آني أبقى صاحبك وأتمنى أن تقنع الرفاق ببرائتك و…
لكنك قاطعتني صارخاً بصوت يرتجف بالغضب رغم بحة الحزن:
– كافي يا رفاق ماعدت أتحمَّل.. يا جماعة اشلون أخونكم.. أنتم إخوتي أنتم أهلي أنتم أبويَ المرحوم اللي ما أنساه حتى نهاية عمري.. شلون أخونكم شلون.. لو تدرون إشگد أحبكم.. لو تريدون أثبتلكم إخلاصي ونزاهتي آني مستعد أن أقوم بأي عملية انتحارية تقترحونها عليَّ.. أفجر نفسي بهاي اللحظة إذا ردتم.. يا رفاق.. يا إخوان، الله أكبر .. الله أكبر .. معقولة أخونكم؟!
وكانت عبارتك الأخيرة مصحوبة ببكاء مر وأنت تضع وجهك بين كفيك وتجهش بنحيب وتضرب على رأسك.
ولكي أقاوم رغبتي الجيّاشة بمشاركتك غضبك وخيبتك نهضت إلى المطبخ وفي رأسي تجلجل كلماتك عن العملية الانتحارية. لمعت في ذهني فجأة فكرة شيطانية، وجدت فيها حلاً حاسماً لهذه المشكلة.
لا أدري كيف أني كنت متيقناً بصورة أقرب إلى الإيمان المطلق بأنك ستنجح بهذا الامتحان وستثبت لهؤلاء العطشى للدماء أنك فعلاً بريء وأنهم هم التعساء الهاربون من موتهم الداخلي بدفعك أنت نحو الموت.
أخرجت مسدسي من حزامي وأفرغت منه جميع رصاصاته ثم عدت إليكم. قبل أن ينطق أحد، خاطبتك أنا بصوت جاد حازم:
– اسمع يا رفيق، اقتراحك القيام بعملية انتحارية هو حل رائع لإثبات إخلاصك. موتك هو الدليل المعقول على برائتك. لكن المشكلة أن الرفاق بحاجة إلى دليل من دون انتظار.
توقفت للحظات وأنا أرمق رفاقي المستغربين من كلامي، ثم أكملت:
– آني متأكد يا رفيق إحنا كلنا بحاجة إلى موتك.. منظمتنا بحاجة إلى شهداء، ولا بأس أن تكون أنت أول الشهداء. لا يهم إن كنت خائناً أم مخلصاً، المهم أن تكون شهيداً.. خذ هذا المسدس وانتحر أمامنا الآن، خذ يا صاحبي خذ.
ووضعت أمامك المسدس على الأرض.
حينئذ، رأيتك ترمقني بنظرات يمتزج فيها الحب والحزن. بصوت جريح طلبت مني ورقة وقلم. ثم بيدك المرتعشة كتبت:
ـ ((أيها الرفاق تذكَّروني.. أموت وأنا أحبكم وأتمنى لكم الخير.. النصر لثورتنا.. تذكَّروني عند العودة المظفرة إلى الوطن.. الحرية أو الموت.. الوداع أيها الرفاق إني معكم إلى الأبد.. رفيقكم المخلص حتى الموت)).
ثم نهضت من جلستك وعانقت الرفيقين أولاً.
أتذكَّر الآن جيداً، رغم قرارك أن تموت بشجاعة، إلاّ أنك عندما واجهتني رأيت دموعاً تتلألأ في مقلتيك. عانقتني وخاطبتني بصوت حنون هامس:
– الوداع يا رفيقي (آدم).. أنت أخي رغم كل شيء.. سلامي لجميع الأصدقاء.. أرجوك لا تخبر أبداً أمي وأختي بحقيقة موتي.. قل لهن: سافر إلى أوربا وانقطعت أخباره.
عندما شاهدك الرفاق تتناول فعلاً المسدس من على الأرض، ارتسم القلق على وجوههم. واتجهت أنظارهم نحوي بحثاً عن تفسير يهدئ من قلقهم من أن توجه أنت المسدس نحونا وتطلق علينا النار، لكنك عندما وضعت فوهة المسدس على صدغك هدأ القلق وعمَّ الصمت والترقب، حتى في الخارج عمَّ الصمت.
هكذا فجأة عمَّ الصمت حارة الفاكهاني، بل بيروت كلها، وربما العالم بأجمعه تجمَّد مترقباً لحظة انفجار الرصاصة في رأسك يا صاحبي لتصبح شهيداً تسقي بدمك شجرة الحرية التي يتبول عليها الأحياء.
فجأة سمعت (طاق) خفيفة! سحبت نظري من النافذة والتفت بسرعة نحوك، وجدتك مغمض العينين والمسدس ما زال على صدغك، ومن دون انتظار ضغطت أصابعك مرة ثانية على الزناد.. طاق! وهذه المرة أيضاً لم تنطلق الرصاصة. عاودت بسرعة مرة ثالثة ولكن النتيجة نفسها. فتحت عينيك وفغرت فمك مندهشاً حائراً. ليست أنظارك وحدها التي اتجهت نحوي بل أنظار الرفاق كذلك، متسائلين مستفسرين عن سر ما يحدث.
أمام هذا الأمر وجدتُ نفسي أنطلق بضحكة هوجاء، كانت مزيجاً من الفرح بنجاحك بإثبات برائتك، وكذلك تغطية لشعوري العميق بالعار؛ لأني اضطررت أن أساهم بهذه المهزلة التافهة.
حينها رأيتك تدع المسدس يسقط من يدك ورحت تجهش بنحيب معاتب:
ـ ليش يا رفاق تعملون وياي هيك.. ليش تعذبوني.. هاي الاخوّة والعشرة يا إخوان.. ليش ليش؟

* * *
صحيح أنك لم تمت يا أخي، لكن خضوعك لقرار الموت وخوضك للتجربة جعلك تموت رمزياً بالنسبة لباقي الرفاق. بعد تلك الحادثة وشيوع تفاصيلها اجتاحت المنظمة كلها حالة من الخدر والانحلال وكأننا تخلصنا جميعنا من تلك الحاجة الملحة للانتقام والقتل. بصورة خفية أصابنا نوع من الخمود والاحباط أشبه بذلك الذي يحسَّه الرجال بعد الانتهاء من فعل اللذة.
بعد رحيلك المفاجئ إلى المجهول بأيام قليلة تفجرت فجأة الخلافات بين رفاق القيادة العليا. هكذا فجأة هبطوا إلى الحضيض وراح كل واحد منهم يكشف أوراق الآخرين: كل واحد منهم تبين أنه تابع لإحدى أجهزة المخابرات العربية. بل إن أحدهم، الذي كان أكثرهم إصراراً على اتهامك بالخيانة وتنفيذ الإعدام بك، تبين أنه مرتبط بالمخابرات العراقية وهرب إلى العراق بعد افتضاح أمره. الطريف أن هذا الرفيق بالذات كان مسؤولاً عن إعداد الجوازات المزورة التي سنعود بها إلى الوطن للقيام بحرب المدن!



العودة لأعلى